{اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ*عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:8-9].
يخبر الله تعالى في الآيات الكريمة عن دقيق علمه، ولطيف حكمته، وشمول إحاطته، وأنه جل وعلا لا تخفى عليه خافية، {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:59].
يقول ابن كثير: يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات، كما قال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34] أي: ما حملت من ذكر أو أنثى، أو حسن أو قبيح، أو شقي أو سعيد، أو طويل العمر أو قصيره، كما قال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].
وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم، ولا يخفى عليه منه شيء. {الْكَبِيرُ} الذي هو أكبر من كل شيء، {الْمُتَعَالِ} أي: على كل شيء، قد أحاط بكل شيء علما، وقهر كل شيء، فخضعت له الرقاب ودان له العباد، طوعا وكرها -تفسير ابن كثير 4/ 436.
ويقول سيد قطب: ولفظة {الكبير} ولفظة {المتعال} كلتاهما تلقي ظلها في الحس، ولكن يصعب تصوير ذلك الظل بألفاظ أخرى، إنه ما من خلق حادث إلا وفيه نقص يصغره، وما يقال عن خلق من خلق الله كبير، أو أمر من الأمور كبير، أو عمل من الأعمال كبير، حتى يتضاءل بمجرد أن يُذكر الله.. وكذلك {المتعال}.. تراني قلت شيئا؟ لا، ولا أي مفسر آخر للقرآن وقف أمام {الكبير المتعال}! -في ظلال القرآن، تفسير سورة الرعد.
ويقول الدكتور محمد دودح: أكدت الآية الكريمة قصر العلم التفصيلي المسبق بكل مقدر الحدوث قبل وقوعه على الله تعالى وحده، لكنها جمعت لله تعالى وحده ما هو بالنسبة للبشر غيب لم يقع بعد، فضلا عما هو شهادة متحقق الحدوث، وراعت ترتيب علم الله تعالى بالغيب بالنسبة للبشر ليناظر غيض الأرحام وترتيب العلم بالشهادة ليناظر زيادتها، ويعرف هذا الأسلوب عند اللغويين باسم -اللف والنشر- ويعني أن الأرحام تغيض قبيل تخلّق الجنين وازديادها، وبالفعل ينقبض الرحم ويغور للداخل قبل وقوع الإخصاب، وتشكل الخريطة الوراثية، ولا يمكن لأحد حينئذ سوى الله تعالى وحده العلم بخصائص الجنين أو ذكورته وأنوثته، والخلاصة أن الله تعالى يعلم بمستقبل ومصير الإنسان المقبل الذي لم يتخلق بعد حال غيض الأرحام تماما كما هو حال زيادتها بعد تخلقه.
ويأتي الحديث مؤيداً نسق القرآن الكريم في قصر الغيب المطلق عن علم البشر على حال غيض الأرحام قبل تخلق الجنين دون حال ازديادها بعد تخلقه، ففي الحديث الذي رواه البخاري وغير واحد، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» صحيح البخاري 6/2687، هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلمها أحد.. فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب.. وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة، ومن يشاء الله من خلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، ولكن إذا أمر علمته الملائكة، ومن شاء الله من خلقه، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت.. وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب -تفسير ابن كثير 3/454 -موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
وقد ورد في الحديث أن الملائكة تعلم بحال الجنين منذ بدء تكون النطفة، ففي الحديث الذي رواه البخاري وغير واحد: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكا يقول: يا رب نطفة، يا رب علقة، يا رب مضغة. فإذا أراد أن يقضي خلقه، قال: أذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ فما الرزق والأجل؟ فيكتب في بطن أمه» صحيح البخاري 1/121، وصحيح مسلم 4/2038.
يقول الشيخ عبد المجيد الزنداني: وإذًا هناك نصوص قد بينت بجلاء أن الأمر المحجوب عن علم غير الله إنما هو في مرحلة ما قبل تكون الجنين، فعلمنا أن الأرحام قبل أن تزداد حتى يراها كل المحيطين بالحامل تعاني من حالة تقلص وانكماش وغور ونقصان، وفي تلك الفترة حال الجنين المرتقب محجوب عن علم غير الله تعالى..، فهو مفتاح من مفاتيح الغيب يفتح على أبواب مغلقة، ولا يملكه دون الخالق سبحانه أحد..
وفي مرحلة الغيض يستحيل على إنسان أن يعرف صفات الجنين المقبل.. ولو جئت بصفين، وقلت: أنا سأصنع من هذه الأحجار بناء هل سيعلم أحد السامعين يقينا أيكون من الصفين مدرسة أم مستشفى؟ فيلا أم عمارة؟ هكذا الجنين في مرحلة الغيض لا يعلم أحد غير الله تعالى بما سيكون عليه حاله -من مقالات الشيخ عبد المجيد الزنداني.
المصدر: موقع دعوة الأنبياء.